الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر.قصة قصيرة ..الحبيب أعزيزي




    ((اللعنة..)).                                                                                                                         

 زوجتي ماتت على الساعة الخامسة تماما. بمجرد أن وقعت عيناها على القفص الأحمر الذي حملته هذا اليوم للمنزل. سقطت مثل ملعقة خشب خلف بوطاجيه المطبخ. بعدها جمدت للأبد. بالنسبة للجيران في العمارة، لا شيء قد وقع بعد. فهذا الحادث وقع لي أنا فقط.لأنني ببساطة أسبق الناس في المدينة بأسبوع كامل. بينما أعيش الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر، يعيش الناس هنا الأسبوع الأول من هذا الشهر. اكتشفت هذا بالصدفة حين اشتريت جورنال الأخبار من الكشك الصغير. من أمام مقهى روزا لينا. يشير التاريخ في الصفحة الأولى إلى السبت(( ثلاثون نوفمبر)). بينما أنا جد متيقن أن اليوم هو السبت ((سبعة ديسمبر)) بالضبط. طبعا في صفحة الأحداث لم تشر الجريدة لخبر وفاة زوجتي. ليس لأنه حدث عاد. بل لأن الجريدة متأخرة مثل المدينة نفسها بأسبوع كامل.

لم نكن سعداء أنا وزوجتي رانيا في هذا البيت الواسع. المكون من ثلاث غرف ومطبخ صغير وصالون كبير وبهو مفتوح على الشارع. حيث تنبت المقاهي مثل الجرب. لم نكن تعساء أيضا. ولو أننا عشنا وحيدين وتائهين طوال اليوم ، بين ممرات وغرف منزل يبدو في أغلب الأحيان مثل أدغال غابة موغلة في التاريخ. منذ عشرين عاما تقريبا ونحن ننتظر ضيفا نلهو معه، لكنه لم يأت. رغم أننا نمارس الجنس كل يوم . ربما رانيا عاقر. أو ربما أنا. حقيقة لم أتحقق من هذا. ولم أفكر فيه قط. أعمل في دار الأيتام المجاورة للمستشفى، مديرا على ثلاث طباخات وامرأة تشتغل في التنظيف. أرى كل يوم الكثير من الأولاد في مختلف الأعمار. بأجناس وسحنات مختلفة أيضا.  

هذا اليوم قررت أن أكون واقعيا. أن أترك الخيال نائما في رأسي. أعني يغط في نوم عميق مثل حارس ليلي يدخل الفراش للتو. فكرت أن أتبع قدمي فقط. أترك لهما أمر حملي أينما شاءتا. وبالسرعة أو البطء الذي تريدانه. أمر أعرف أنه لا يحدث للكثيرين: أن تركب على قدميك وتجلس بصمت تمثال. بينما تتحرك القدمان بحرية ودون عقل. تحملك مثل كيس بطاطس. تخترق جموع العائدين من العمل. تتفرج مثل سائح صيني على وجوه ومؤخرات النساء اللواتي يملأن شارع ابن سينا. بعينين لا ترمشان مثل عيني جثة.

كنت على طول الشارع أدرب دماغي على رؤية الناس كما هم. أن أرى مثلا عينين في كل وجه عوض ثلاثة. يدان في موضع الكتف عوض قدمين كما حدث لي مرارا. وفعلا نجحت.

كان فنجان القهوة في مقهى روزا لينا مجرد فنجان. فيه قهوة سوداء ويتصاعد منه دخان قليل. وضعته أمامي على الطاولة الدائرية نادلة بشوشة. بمبالغة زائدة. حتى أنها تكاد تبتسم من أستها. فرحت لأني أخيرا أصبحت شخصية من لحم ودم. أستطيع رؤية الشمس وهي تميل على امتداد الشارع خلف المقاهي، وتكاد تسقط في كف خزان الماء الشامخ، في الحي المجاور. وأرى أغلب الحوانيت والمؤسسات بأبواب مغلقة في عطلة الويك ـ آند.

كانت عمارة أفيسين مغلقة هي الأخرى. رحل بائع الملابس بعد أن أغلق الحانوت على عشرين من المانيكان. بين الذكور والإناث. هم الآن خلف الباب الحديدي أسفل العمارة المقابلة مباشرة. ولا أحد يمكنه أن يعرف أي فوضى قد دخلوا فيها وسط الظلام. شخصيا لا أثق فيهم. ولو كانوا من البلاستيك. في الطابق الأعلى، توجد مؤسسة لتكوين الممرضات. تزينها لوحة إشهارية ضخمة. عبارة عن خمس صور لممرضات شابات. وسيمات جدا. في لباس رسمي أزرق. تتوسطهن أجملهن جميعا. كانت تضع على رقبتها جهاز كشف الضغط. وترتدي الصابو الطبي الأبيض.

 وسط الملصق الكبير، تبدو أحيانا وهي تضع منديلا أحمر على شعرها. وفي بعض الأحيان ترى رأسها عاريا. يبدو أيضا أن شعرها الأشقر القصير يتحرك. بخفة جد غريبة فوق عينيها. بعض المارة متيقنون أن شيئا خاصا يحدث وسط هذا الملصق الغريب. ولا أحد يعرف بالضبط ما هو. بسمتها الإشهارية مغرية جدا. حد أن تبادلها البسمة لو نظرت إليها. لكن لو أمعنت النظر، يمكن أن ترى عينيها تتحركان وسط وجهها الدائري. الوجه الشديد البياض. أغلب زبناء المقهى المقابل تناقلوا خبر هذه الممرضة الإشهارية. بعضهم زعم أن الفتاة تغمز غمزة خفيفة. لذلك رحل عن الشارع منذ مدة. حاملا الكثير من الخوف والكثير من علامات الاستفهام.

الساعة الثامنة تكون الشمس قد غادرت خزان المياه العالي. رحلت لتدفئ شعوبا لاتنام. هكذا يحدث في شهر ديسمبر غالبا. مصابيح البلدية شرعت منذ لحظة في إرسال ضوئها الأصفر على الإسفلت وجدران المنازل والمقاهي، على وجوه المارة أو الجالسين أمام كؤوس القهوة. الآن بالضبط شرعت الأشياء تحدث بسرعة. أعني الأشياء الغريبة حقا. فقبل نصف ساعة فقط، سقط بائع الحلزون المقلي فانقلبت العربة. بعدها رأيت القطط تهرب.((اللعنة)). تخرج من الشارع تباعا . كل القطط دون استثناء. ثم انفتح فجأة باب العمارة المغلقة. وظهرت فتاة الإشهار. قلت في نفسي

ـ (( اللعنة..ما هذا الذي يحدث في هذا الشارع؟)).

كانت تضع المنديل الأحمر والصابو الطبي الأبيض. تحمل جهاز الكشف في يدها. تقدمت بخطى واثقة وهي تقطع الشارع نحو المقهى. في نظري مستحيل أن ينفتح هذا الباب يوم العطلة. لكن هذا ما وقع بالضبط.

مالت فتاة الإشهار نحو طاولتي بالذات ثم جلست أمامي. كانت تحمل نفس البسمة الجميلة التي في الصورة.

قالت:

ـ إن الرب أرسلني.

بين الخوف الذي يأكل نصف جسدي أسفل الطاولة، وتصنع الشجاعة والهدوء في النصف الأعلى، أجبت:

ـ أنا أيضا أرسلني الرب.

قالت:

ـ أعرف.

بلعت رطلا من الريق تقريبا وخاطبت نفسي :

ـ ((هممم ..اللعنة)).

أضافت بدون تردد:

ـ لقد أمرك أن تكون واقعيا. أن لا ترى ثلاثة عيون في وجه واحد.

ثم مدت يدها نحو أذني. وبقبضة خفيفة ـ أشبه بيد أم تعاتب طفلها ـ خفيفة كالريح. همست:

ـ تعال.

أجبت:

ـ إلى أين؟

قالت مندهشة:

ـ كيف إلى أين؟ ألم يخبرك الرب بالتفاصيل؟

وجدت نفسي في ورطة حقيقية. لم يعد جمال الفتاة العجيبة يغريني. لا بسمتها. لا هويتها أصلا.

ـ أية تفاصيل تتحدثين عنها؟ أنا لا أعرفك. ولم يسبق أن التقينا أبدا.

تصاعدت موجة حمراء من الغضب على وجهها. لحظة. ثم عادت فابتسمت من جديد:

ـ ارفع عينيك إلى تلك اللوحة الإشهارية.. أنا التي نزلت من وسط تلك الصورة.. أنت تعرفني. وأنا أكلمك من هناك كل يوم.

وفعلا ألقيت نظرة على الصورة الضخمة المعلقة على جدار مؤسسة التكوين.

ـ (( اللعنة..فتاة الإشهار ليست هناك بالتأكيد)).

كان مكانها فارغا كأنما قطعت من هناك بمقص. في حين تظهر في اللوحة صديقاتها وهن يضعن ـ على غير العادة ـ أيديهن على جانب من وجوههن ويتأملنني بدقة مبالغ فيها.

ـ أعرفت الآن؟ قالت.

ـ (لم أجبها).

بقيت مشدوها. لقد تمكن الرعب من مؤخرني بالفعل. لا أعرف ما أفعل.

الفتاة تبتسم. كأنها تخبئ لي مفاجأة كبيرة.

عادت فهمست:

ـ هيا صديقي. ألا تريد أن تراها؟

قلت:

ـ من؟

أجابت

ـ رانيا..رانيا زوجتك.

قلت وعيناي تكادان تسقطان من رأسي.

ـ لكن رانيا ماتت .

أجابت بسرعة:

ـ بالنسبة إليك نعم. أما هي فلا. أنت تعيش أسبوعا متقدما على كل الناس في المدينة. أليس كذلك؟

قلت:

ـ بالتأكيد.

خمنت أن لا أحد يرفض رؤية زوجته.حتى لو كانت شبحا بالفعل.هذا من مشتقات الحب. شيء لا يمكن فهمه.حتى في المختبرات المجهزة بأحدث الآلات. يمكن الكشف على السرطان أو على فيروس كورونا، لكن لا يمكن الكشف علاقات العشق.

ربتت الفتاة على كتفي ونحن نسير نحو عمارة أفيسين. وقالت في أذني:

ـ أنا وصديقاتي المتدربات أيضا نعيش أسبوعا متقدما. مثلك تماما. نحن وأنت فقط.

أضافت وهي تجرني مثل أعمى أو مثل معتوه في درج العمارة:

ـ إنها جميلة.

سألت بسرعة:

ـ من؟

أجابت:

ـ رانيا. زوجتك التي ماتت الباحة. لماذا لا تفهم بسرعة؟

سألت:

ـ وهل هي هنا؟

ـ بالطبع. إنها في الغرفة المغلقة.

ـ وماذا تفعل هناك؟

ـ إنها في القفص الأحمر الجميل.

قلت:

ـ لكن...؟

أجابت الفتاة مبتسمة وواثقة من كل شيء :

ـ الرب لم يخبرك بالتفاصيل..هذا غريب. لكن ربما لحكمة لا يعلمها إلا هو.

كان الصعود إلى الغرفة المغلقة في الطابق الثالث مثل الصعود إلى الجحيم. أو ربما النزول إليه. حقيقة لم أعد أشعر بالاتجاهات إطلاقا. غير أن العمارة الصامتة والباردة لا حد لها. طويلة الممرات. شعرت أني قضيت نصف ساعة كاملة وأنا أجر جسدي فوق الدرج خلف الفتاة التي سقطت من الملصق الإشهاري. أرتطم بالجدار على اليمين ثم على اليسار. بعد حين ننعطف يمينا ثم يسارا. وأخيرا وقفت الفتاة. التفتت إلي :

ـ مستعد؟

ـ (( اللعنة..)) لم أجب.

دقت على الباب الخشبي  البني السميك. ثلاث دقات خفيفات ودقة رابعة قوية. يبدو أن ذلك مجرد كود متفق عليه. ثم سمعت صوتا نسويا رقيقا يصيح من الداخل.

ـ أفتحي الباب. إنها الرئيسة.

عندما فتح الباب عن خشخشة خفيفة، وجدت نفسي وجها لوجه مع إحدى الفتيات المتدربات التي كانت صورتها هناك على اللوحة الإشهارية. كانت فرحة وخجولة مثل فتاة تحاول إغراء زوجها في مطبخ الدار. كانت رائحة الكحول ورائحة أدوية أخرى لا أعرفها تملأ الغرفة المغلقة منذ سنين. في حين تتحرك الأخريات في غنج مدوخ داخل الصالون. إحداهن مدت لي كرسيا خشبيا. وطلبت مني الجلوس إلى طاولة حديدية ذات طلاء أبيض.

قالت رئيسة المتدربات وهي تخاطب إحدى الممرضات:

ـ ماذا تنتظرين؟ هات القفص الأحمر.

بقيت جامدا مثل تمثال من الإسمنت. لحظة ثم عادت المتدربة من الغرفة المقابلة. كانت بالفعل تحمل القفص الأحمر. يظهر أنه أكبر بكثير من الأقفاص الخاصة بالعصافير. تقدمت في حذر شديد ثم وضعته أمام عيني على الطاولة برفق. ألقيت نظرة عبر الأسلاك الحمراء.

ـ يا إلهي. ما هذا ؟ ((اللعنة)). صحت.

لقد كانت زوجتي رانيا واقفة وسط القفص. تلوح بيديها، وتبتسم في وجهي. كانت صغيرة في حجم قطة. لكنها  تبتسم. أعرف بسمتها وعينيها البنيتين. أنا أعرف وجهها منذ عشرين عاما. إنها هي..هي.. وراء القضبان . لكنها صغيرة جدا. في حجم قطة فقط. وفي هذه اللحظة سقطت عن الكرسي وغبت طويلا.

عندما أيقظتني رشات الماء البارد. سمعت الفتاة ذات المنديل الأحمر توشوش في أذني:

ـ خذ زوجتك بسرعة. علينا أن نعود للملصق قبل شروق الشمس.

وحين وجدت صعوبة في ركوب قدمي. قالت:

ـ هيا انهض. علينا أن نعود لمكاننا قبل أن تصحو المدينة. لا تنس أن تغلق الباب خلفك.

نزلت الدرج بسرعة. أغلقت باب عمارة أفيسين. ثم دلفت إلى شارع ابن سينا وأنا أحمل رانيا زوجتي في القفص الأحمر. في كل لحظة أكرر النظر إليها. إنها هنا في حجم قطة صغيرة. ملامحها لم تتغير إطلاقا: الشعر الأصفر القصير، لون البشرة السمكي، وعينا الصينيات الضيقتان والمنتفختان أسفل الحاجبين السوداويين . غير أن بسمتها أصبحت صغيرة جدا. وأصابعها مثل أصابع دمية من لحم ودم. كانت ترتدي القميص الأصفر وسروال الجينز الأزرق اللذين كنت معجبا بهما منذ سنة على الأقل.

كان الشارع شبه فارغ. الكلاب الحرة ترحل بعيدا عن الدروب. والحارس الليلي يجمع فراشه في مدخل إحدى العمارات الواطئة. يستعد للرجوع إلى البيت. مصابيح البلدية لا تكاد تنير نفسها إلا بالكاد. الضباب الصباحي الكثيف يغلبها. ويرش البنطلون الأسود الذي ألبسه. يرش أيضا شعر رانيا التي أحملها في القفص الأحمر.

أسرعت نحو باب العمارة التي أقطنها. وأخذت الدرج. كنت خائفا من ملاقاة أحد الجيران. أخرجت المفتاح من الجيب الخلفي للسروال. وفتحت. كانت رائحة الشاي بالنعناع تملأ منزلي. دلفت إلى المطبخ. وطبعا وجدت زوجتي خلف البوطاجيه تعد الفطور كعادتها. ملأتني الحيرة. نظرت إليها ونظرت إلى الصغيرة التي في القفص الأحمر، وقلت في نفسي:

(يا إلهي الذي في السماء. ما هذا؟ زوجتي ماتت.. وأنا أحملها حية .. في هذا القفص الأحمر.. والآن زوجتي تعد الشاي ..وكأن شيئا لم يقع..يا إلهي..).

لكن حين أطلت رانيا بعينيها الصينيتين على القفص. ورأت نفسها في حجم قطة بين القضبان، هنا سقطت خلف البوطاجيه مثل ملعقة من خشب. بعدها جمدت للأبد.

 الخامسة تماما. جلست وحيدا في المطبخ ذاك الصباح. على كرسي خشبي قديم. يذهب ويجيء مثل من يلعب بأرجوحة عتيقة. بينما زوجتي عبارة عن جثة صامتة هناك. وهي نفسها تلوح وتلوح من داخل القفص الأحمر الموضوع فوق البوطاجيه. تريد أن تقول شيئا. غير أنها لا تستطيع.

 كان الصمت ثقيلا  ثقيلا. وكان الصدى يهمس في أذني ما قالته فتاة الإشهار :

ـ ((أنا.. وصديقاتي المتدربات.. أيضا.. نعيش أسبوعا متقدما.. مثلك تماما.. نحن وأنت فقط..))

ويضيف بعنف:

ـ(( ألم..يخبرك الرب..بالتفاصيل..تفاصيل..تفاصيل)).

فكرت أن رانيا التي سقطت هذا الصباح ميتة في مطبخ البيت، لم تكن أبدا مثلي. أو مثل فتيات ملصق الممرضات المتدربات على جدار عمارة أفيسين. كانت عادية. تعيش بداية الأسبوع الأول من شهر ديسمبر أما أنا فأسبقها كما أسبق المدينة بأسبوع كامل. أنا والممرضات المتدربات نعيش اليوم الثامن منه.

ـ ((اللعنة)) قلت .

ـ ((هل قتلت رانيا؟.. أم أن هذه تفاصيل الرب فحسب.

 

                                                                   شتاء 2020

 

 

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات