الهارمونيكا......قصة قصيرة ـ الحبيب اعزيزي


قبل عشرين سنة خلت ، كان الشاب سيفاو الذي ولد ذات ليلة في إحدى المدن الصغيرة غير بعيد من الرباط عاصمة المغرب، قد تخرج من الجامعة. ثم بعدها تخرج من مدرسة تكوين المعلمين .فعينته الدولة معلما في إحدى المدارس النائية. يا إلهي ماكان اسمها؟ آه : فرعية تاناغوت.

عاش المعلم سيفاو صاحب الوزرة البيضاء والنظارات الطبية السميكة في القرية النائية وحيدا تقريبا،ينام على الطاولات الخشبية. في نفس القسم الذي يعطي فيه دروسا للتلاميذ. أغلب الظن أنه لاينام ليلا سوى ست ساعات تقريبا.فقد شاء القدر أن يكون معلما لأبناء قرية تاناغوت المصابة بمرض يدعى "متلازمة داون". وهو تخلف ذهني وراثي يسكن منذ القدم بين الناس. ويتوسع كالوباء بين الأطفال هناك.

عاش سيفاو حزينا للغاية،فنتائج الامتحانات غالبا ما تكون كارثية. مما جعله عرضة لانتقادات المدير، والمفتش، والنائب على حد سواء. لكن لم يكن يعير اهتماما زائدا لذلك . فالمدير مثلا لا علاقة له إطلاقا بعالم التربية. فقد كان همه الوحيد هو سرقة التمر، والزيت، والفاصوليا، وعلب السردين من المطعم المدرسي. كان المعلم ورغم الظروف الصعبة، قد أقسم أن يهزم "متلازمة داون"الخبيثة في عقر دارها.

 وغالبا ما كان يردد في نفسه ما:

لست فاشلا، أنا جد متيقن من هذا.. المدير والمفتش لا يعرفان "جون داون "، ألم يسألني المدير هذا اليوم عن المستوى الذي يدرس فيه داون ضانا ها..ها..ها..أنه أحد تلامذتي. ربما هو الآخر مصاب بنفس المتلازمة الخبيثة.كان يجيب نعم ولا لنفس السؤال؟كيف؟ فاشل (يضحك في نشوة حزينة) . على الأقل لست الفاشل الوحيد في هذا البلد. (يدخل وحيدا داخل القسم في بكاء هستيري).

 كان كلما سافر، يعرج على كبرى المكتبات. فيختار كتب علم التربية الخاصة ثم يعود إلى القرية . البحث في الكتب لم يأتي بجديد. فالنتائج ظلت كارثية . بل تزداد سوءا من امتحان إلى امتحان ومن سنة لأخرى . لذلك سقط المعلم سيفاو بعد خمس سنوات بالتمام في حالة اكتئاب من العيار الخطير إلى أن ظهرت الهارمونيكا.

قبل أسبوعين فقط، وعد التلاميذ بمكافأة مالية. لمن يستطيع إيجاد أربع أجوبة صحيحة، من أصل عشرة أسئلة كتبها بقلب غير واثق، على السبورة البيضاء الجديدة. ولو أنه لا يحب هذا الأسلوب من التحفيز. الذي لا يعتمده سوى المبتدئون. أو القتلة المأجورين في أفلام رعاة البقر. لكن ما العمل؟ عليه أن يجرب أي شيء وكل شيء . ناول ورقة مالية خضراء لأحدهم :

ـ نعم. لقد نجح في الأجوبة الأربع من أصل عشرة.

 واليوم لا يدري لماذا يسأل نفس التلميذ:

ـ ماذا فعلت بالفلوس يا بيهي؟

أجاب التلميذ بعد أن خرج من الطاولة الخشبية الطويلة. وبدا عليه أنه تحرر من قبضة الخشب الذي افترس ركبتيه ، وهي إشارة الانضباط التي يتعلمها التلاميذ مرتين في حياتهم : مرة في المدرسة ومرة بالمطرقة الخشبية القصيرة في جلسة المحكمة. عندما يصبحون رجال الغد بالطبع.

 تسلم سيفاو الآلة وتفحصها. عدا الغبار و الصدأ الذي يعلوها، والثقل الزائد بعض الشيء، فهي مجرد آلة قديمة عادية. لا، بالعكس. هناك شيء مكتوب تحت الغبار. مسح بممسحة الإسبونج  ثم مسح بأكمام الوزرة البيضاء. و شرع يتلو الجملة بصوت متقطع:

 (( الأميرة ذات القرن الذهبي)). بعدها شعر كما لو أن تيارا كهربائيا يسري في هذه الآلة الصغيرة. لكنه لم يهتم.  بل ابتسم وبدأ في النفخ . فكر أنه لم يسبق أن وضع هارمونيكا في فمه طوال حياته.لكن الغريب هو هذا اللحن السحري المنسجم. والذي يكاد يرفع القسم كاملا إلى عالم خيالي. شعر المعلم سيفاو بموجة من الشك. فنزع الآلة من فمه ورمى بها في رعب على الطاولة.

 هنا بالضبط جرى ما لم يكن بالحسبان: الموسيقى لا تنقطع ..الهارمونيكا لازالت ترسل نفس اللحن وهي مرمية .وحيدة على المكتب. ضحك التلاميذ كثيرا ثم سمعوا إشارة الانضباط. بعدها صاح سيفاو:

ـ لنعد إلى الدرس.

منذ هذا اليوم لاحظ المعلم حيوية خارقة داخل القسم. وحركية وتجاوبا عاليا مع الدروس. لقد انقلب كل شيء على عقبه. وأصبحت علامات التفوق تتقاطر على دفاتر التمارين. بالقلم الأحمر طبعا. سيف ديمقليس كما يسميه المعلمون . ورغم موجات الشك والتردد، التي تأخذه بين لحظة وأخرى.  فقد شرع يعزف الألحان  ـ لنقل أن الهارموننيكا تعزف من تلقاء ذاتها ـ في بداية كل حصة. أو في بداية كل مادة. فاستمرت النقط والعلامات الجيدة تشتي داخل القسم.
ـ الآن هزمت "متلازمة داون" أيتها الأميرة صاحبة القرن الذهبي.

 كان يردد سيفاو بصوت مسموع والتلاميذ يواصلون الحصاد الوفير.

حدث ذات يوم أن سافر المعلم. ونسي أن يحمل الهارمونيكا معه. لقد غاب عن تاناغوت لمدة ثلاثة أيام. طبعا لكي يصل إلى مسقط رأسه، في المدية التي تقع في مقدمة سلسلة جبال الأطلس المتوسط. مرت الأيام والليالي ببطء قاتل. قبل أن يستقل من جديد القطار نحو مدينة مراكش. ومنها يركب شاحنة فورد الحمراء. التي تحمل كل شيء على ظهرها: المعلمون والماعز، المرضى والممرضون، قارورات  البوتاغاز وأكياس البارود، المجانين والعرائس، شيوخ الزاوية والخارجون توا من السجن. كان سيفاو شارد الذهن فقلبه كل قلبه قد سرقته الهارمونيكا. التي نسيها تحت الوسادة. فوق طاولات القسم حيث ينام ليلا.

حين دلف إلى القسم لم يجد أثرا للآلة النحاسية العجيبة. إنما وجد رسالة موضوعة بعناية تامة على المكتب الذي يقبع وحيدا في زاوية القاعة:

عزيزي سيفاو

لم أنتظر أن تملأني بكل هذا الحب. طيلة الوقت الذي قضيناه معا. وإن كنت لا تراني. أنا أيضا تعلقت بك كثيرا..أراقبك ليل نهار..الأشعار التي غنيتها طيلة هذه المدة كانت خلاصة حياتي. يروق لي الحب الذي ينمو بينك وبين الصغار..لقد عصفت بالظلام الذي يسكن القرية منذ سنين طويلة. أنت الآن قد هزمت " متلازمة السيد داون" بالتأكيد .

أنا الآن في طريقي للقاء إخوتي الربات الثمانية..فقبلاتي الذهبية.

الإمضاء :  كاليوبي

           الربة صاحبة القرن الذهبي.

 

 


إرسال تعليق

0 تعليقات